وفي آخر التوراة يقول الكاتب ما معناه: "ولما أراد موسى أن يموت أمره ربه أن يصعد إلى الجبل، وهناك يقول له الرب: أنت ستموت هنا، قال: ومات موسى وكان عمره مائة وعشرين سنة، ولم يسقط له سن ولم تشب له شعرة، ثم جاء بنو إسرائيل ودفنوه، وقبره هناك، ولم يعرف أحد قبره إلى اليوم، ولم يأتِ بعده نبي إلى اليوم".
فهل يعقل أن يكون هذا كلام رب العالمين أنزله على موسى؟!
كيف ينزل على موسى أنه مات، وأن عمره كذا، وأن قبره هناك، وأنه لن يأتي بعده أفضل منه؟
ولو كانت لديهم عقول لما آمنوا بأن هذا مما أنزله الله على موسى عليه السلام، ولكنهم يؤمنون بذلك؛ لأنهم زعموا أن ذلك من ضمن التوراة.
وأما بالنسبة للأناجيل، فإننا نجد أيضاً العجب العجاب! فالإنجيل الذي أنزله الله تبارك وتعالى وسماه (الإنجيل) هو إنجيل واحد فقط، ولكن النصارى الموجودين الآن في العالم عندهم من الأناجيل المطبوعة سبعون إنجيلاً، وهذه الأناجيل يكذب بعضها بعضاً في أشياء أساسية، فهم يقولون عن موسى: إنه مات ودفن وكان عمره كذا، ولا يعلم أحد قبره إلى اليوم، ولم يأت بعده نبي مثله، وهذا لا يمكن أن يكون مما أنزله الله على موسى، فلا يمكن مثلاً أن يقول الله في القرآن: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي سنة كذا ودفن في كذا، وجاء بعده الصحابة الكرام أبو بكر وعمر ... فلا يمكن أن يكون هذا من القرآن الذي أنزله الله على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن يمكن أن ندرجه في أخبار التاريخ والسير.
إذاً: فهذا يدل على أن التوراة والأناجيل ما هي إلا سير جمعها الناس وكتبوها، وكل منهم كتب ما عنده ؛ لأن هذه الكتب لم يتكفل الله تعالى بحفظها ؛ ولكنهم استحفظوا عليها، كما قال تعالى: (( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ)[المائدة:44]، ففرق بين ما استحفظ وبين ما حفظ، قال تعالى عن القرآن: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر:9]، فهذا محفوظ، وذاك مستحفظ عليه، وقد تستحفظ من لا يحفظ، وهذا هو ما وقع، فقد استحفظ الله تبارك وتعالى من ضيعها وأكل بها السحت، وحرفها بأنواع التحريف: إما بالتحريف الحقيقي: وهو أن يأتوا بآيات ويكتبوها، ثم يقولون: هذا من عند الله وما هو من عند الله. وإما بالتحريف في الألفاظ: وهو ليُّ اللسان: ((يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ))[آل عمران:78]، أي: أنه يقرأ الآية -مثلاً- في التوراة، فيلوي لسانه لتدل على معنى آخر غير المراد منها.
فإما أن يغيروا الكلام ويبدلوه، وإما أن يحرفوه عن مواضعه (يلوون اللسان به)، وإما أن ينزلوه على غير ما نزل فيه. وهذا من التحريف، كأن تنزل آية في فلان فيجعلونها في فلان آخر، أو تنزل في الحلال فيجعلونها في الحرام، وكل أنواع التحريف وقع فيه اليهود.